الشعر قديمه وحديثه
-------
وجهة نظر
--------
بقلم عيسى الجميل:
---------
الشعر لغة هو العلم ، ومنه قولنا :ليت شعري ما صنع فلان؟
أي : ليت علمي محيط بما صنعه فلان
وكل علم هو شعر ، ولكن خص هذا النوع من العلوم باسم الشعر لشرفه و علوه بين العلوم عند العرب، أي أن الشعر اسم للعلم كله كالثريا بين النجوم فيطلق عليها النجم ، وحين تقول:
-قضيت ليلي أساهر النجم
يفهم العربي منك أنك تقصد الثريا ، مع أنها مجموعة نجمية صغيرة ، لكنها أخذت اسم النجم لشرفها بين النجوم
ونحن نعلم أن كل علم في الشرع الاسلامي يسمى فقها
ولكن أصبح الفقه علما خاصا من علوم الشرع محتفظا بالاسم الكلي للعلم الشرعي لشرفه بين تلك العلوم.
فالشعر علم ، وسمي الشاعر شاعرا لعلمه وفطنته و درايته ، فهو يعلم أشياء لا يعلمها معظم الناس ، و ينتج فكرا منغما لا يتسنى لغيره ، فكان له الشرف و المكانة ، حيث يمثل الناطق الرسمي باسم القبيلة و وسيلتها الدعائية والإعلامية وتلفزيونها الرسمي.
وكم من قبيلة شهرت بسبب شاعرها فهذا جرير يخلد اسم قبيلة تميم بهذا البيت:
-إذا غضبت عليك بنو تميم
حسبت الناس كلهم غضابا
... كذلك يروي الرواة أن قوما يقال لهم :- أنف الناقة
كان اسمهم مثار تندر وسخرية حتى قال القائل في مدحهم:
- قوم هم الأنف والباقون هم ذنب
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
فاصبح هذا الاسم مفخرة لهم.
ولكنه ومع تطور المجتمعات البشرية الطبيعي عبر التاريخ بدأ الشعر يتراجع أمام حشد كبير من الكوادر الدعائية والاعلامية التي تسلمت المهمة عنه.
وتحول الشعر رويدا رويدا من فاعل أساسي في الحياة الاجتماعية و السياسية إلى نوع من الترف الفكري والعاطفي لدي كثير من الناس
---2---
هل هناك شعر قديم وآخر حديث؟
لست مع هذا التقسيم بمعناها الفني و إن قبلته بمعناها التاريخي
لأننا حين نوافق على التقسيم الفني للشعر فإننا سندخل في دوامة المفاضلة بين نوعيه القديم والحديث .
الذي أومن به أن كل كلام يحمل مقومات الشعر الجميل هو شعر جميل بقطع النظر عن العصر الذي كتب فيه إلا في معرض دراسة المؤثرات المولدة للمعنى.
والمشكلة الكبيرة التي يقع فيها كثير من الدارسين والمهتمين تكمن في الانطلاق من وجع نفسي قديم ومزمن يعاني منه أكثر الناس وهو التعلق بكل قديم ، وأن كل شيء كان أمس مأسوف عليه ، وهو الجمال و الكمال ، وكل حديث ناقص ولا يقارن بمنتجات الزمن الجميل،
فالشاعر القديم هو الشاعر المثالي
والمطرب القديم هو المطرب المثالي
و الفقيه القديم هو الفقيه المثالي
وهي ناتجة عن عقيدة قديمة تتمثل في تقديس اﻷجداد وعبادتهم التي يبدو أنها تنتقل عبر اﻷجيال من خلال الذاكرة الجمعية للمجموعة البشرية.
هذه النظرية نظرية كارثية إذا ترسخت في ذهن الناقد .
فالدرب إلى اكتشاف روعة رائحة الزهرة هو أن تشمها
والدرب إلى اكتشاف لذة طبق الطعام هو أن تتذوقه
والوردة من حيث اﻷصل قديمة وربما سبقت و جود البشر لكنك عندما شممتها شممت وردة معاصرة أنتجتها بذرة فكانت نسخة مطابقة لﻷصل في معظم الصفات
وكذلك الشعر فهو قديم قدم اﻹنسان الواعي لكنه يتجدد بذرة عن بذرة حتى وصل إلينا
ولا شك أن بذرة الزهرة ستنتج زهرة ثم بذرة ثم زهرة و هكذا ولن تنتج شوكة مكان الزهرة
كذا الشعر فرغم تجدده سيظل محافظا على شيفرته الوراثية لكي يسمى شعرا
والشعر بهذا المنطلق كائن لازماني ولا مكاني بل هو فوق الزمكان
ومن قال أنه يتغير كليا حتى يخرج من كل مورثاته مخطئ ، إنه يتحدث عن شيء آخر لا يمت للشعر بصلة
----3----
ما هي مقومات الشعر ؟
ما هي مجموع الأوصاف التي يجب أن تتوافر في الكلام حتى يسمى شعرا؟
في ما أرى أن مقومات الشعر هي :
1- الكلمة الشاعرة المنتقاة بعناية التي إذا ما وقعت على القلوب واﻷفهام كان لها وقع الماء العذب على كبد الظمآن
فلو نظرنا إلى قول جرير:
ولما قضينا من منى كل غاية
ومسح باﻷركان من هو ماسح
و شدت على حدب المهاري رحالنا
ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف اﻷحاديث بيننا
و سالت بأعناق المطي اﻷباطح
لو نظرنا إلى هذه اﻷبيات لوجدنا كلمات رائعة لكن معناها عادي جدا
هذا يقودنا إلى المقوم الثاني من مقومات الشعر هو:
2 -المعنى النبيل:
المعنى الذي يلامس شغاف القلب فيكون شعارا له أي ثوبا ملامسا
وشعارا له أي علامة ونداء و رمزا :كلمة سر
ونلاحظ في قول لبيد الآتي معنى نبيلا لكن اللفظ قصر به:
وما عاتب المرء الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
3 -جودة السبك و الصياغة حيث تنتظم الكلمات الشاعرات في خيط المعنى النبيل عقدا من جواهر البيان بعيدا عن الحشو و اﻹسفاف، فانظر إلى قول أبي العيال الهذلي :
ذكرت أخي فعاودني
صداع الرأس والوصب
انظر تجد الحشو جليا في كلمتي الرأس و الوصب
بينما تعال متع سمعك بهذه السلسلة الرائعة للمتنبي:
بليت بلى اﻷطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
انظر إلى جودة السبك والصياغة
4 - الموسيقى :
إن أي كلام لا يحمل إيقاعا موسيقيا ليس شعرا مهما بلغ من الجودة، بل إن اﻹيقاع هو العلامة الفارقة بين النثر والشعر، والكلام الذي لا يقوم على تفعيلة هو نثر مهما كان معناه و لفظه نبيلين .
كيف نخلط بين المشي و الرقص ؟
الماشي والراقص كلاهما يخطو
لكن خطوة الراقص مدروسة منغمة بينما خطوة الماشي عفوية لا جمالية لها
والذين يتبجحون بالموسيقى الداخلية للكلمة هم قوم عجزوا عن إخضاع التفعيلة لمعانيهم و ألفاظهم فطلقوها
وأنا هنا أميز بين شعر التفعيلة أي المتحرر من البحور الخليلية الملتزم بالتفعيلة وبين الشعر الحر المنفلت من التفعيلة ،
فهذا اﻷخير ليس شعرا و لن يكوت ، هذا هو رأيي.
أما شعر التفعيلة فهي شعر حقيقي ومنه أمثلة ملء السمع و القلب ، كقول السياب:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص اﻷضواء كاﻷقمار في نهر
يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم
أنشودة مطر الرائعة للسياب أفقية لكنها تتراقص مع تفعيلة مستفعلن لنرقص معها
5- الصدق :
وهذا المقوم لا يلتفت إليه كثير ممن يهمل الدور الفاعل للشعر وينظر إليه على أنه مجرد ترف فكري منفصم عم الواقع
والصدق له منحيان:
الصدق اﻷدبي في كون العبارة ليس فيها مبالغة ممجوجة كقول أبي نواس:
و أخفت أهل الشرك حتى كأنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
يا لها من كذبة
أما المنحى الثاني فهو مطابقة المعنى لحال قائله وهذا أهمله معظم النقاد.
انظر إلى قول المتنبي:
الليل و الخيل و البيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس و القلم
مع أن الرواة يذكرون أنه لم يقاتل قط ، بل قتله هذا البيت في قصته مع فاتك اﻷسدي المشهورة حينما هرب منه فقال له :
- ألست القائل : الخيل و الليل...؟
فقال : قتلتني يابن اللعينة
فالتفريق بين الشاعر و شعره مغالطة كبيرة عند محاولة نقد الظاهرة الشعرية
فقد يقول قائل :
أنا احترم المتنبي كشاعر عظيم ولا احترمه كإنسان كذاب بامتياز ، متكسب بشعره قد يمدح العبد فيجعله سيد البشر من أجل صرة نقود ، يتحدث عن قيم عليا ولا يطبقها ناسيا أنه القائل :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
و المتنبي و أمثاله عبيد للشعر ، و اﻷصل أن يكون الشعر عبدا لصاحبه
والشعراء قسمان :
عبيد و فرسان
العبيد هم عبيد الشعر الذين يتحكم الشعر بهم ، و حياتهم كلها شعر و ليس لهم مفخرة سواه ، الذين يضطرون للكذب ﻹضفاء صفات الفرسان عليهم
اما الفرسان فهم الذين يتحكمون بالشعر ولا يملكهم ولديهم أعمالهم و دورهم الحياتي البارز وهم صادقون في ما يقولون وليسوا مجرد ثريارين يتضايق الناس من كثرة كلامهم و كذبهم
ورأيتم كيف أنني استشهدت ببيت للمتنبي في الدلالة على جودة السبك ، هذا الاستشهاد لا يغير رأيي في المتنبي و أمثاله ولكن العدل و الانصاف يقتضي أن نقول أن الرجل بارع في فن الشعر ولكنه ساقط في تجربته الشعرية بمعناها الشمولي الاجتماعي الانساني
ولو عدنا إلى زمن النبي صلى الله عليه و سلم لوجدنا أن المشركين اتهموه بأنه شاعر.
ليس المقصود هنا أنه ينظم الشعر ، بل المقصود أنه كاذب ، ﻷن عرب ذلك العصر يميزون بين نثر القرآن ونظم الشعر
وقد كانت كلمة الشاعر أحد مرادفات الكاذب
حتى أنهم كانوا يقولون عن اﻷدلة الكاذبة أدلة شعرية
ﻷن الشعر هو البيئة اﻷكثر مناسبة للكذب حتى قال بعضهم:
- أعذب الشعر أكذبه
لكن الانسياق وراء هذه المقولة وبالا على الشعر كقيمة إنسانية اجتماعية
وﻷن كثيرا من الشعراء لم يكترثوا بمقوم الصدق أصبح معظم الناس ينظرون إلى الشاعر نظرة ريبة وانتقاص أحيانا ، ﻷنه باختصار "كذاب" مهما حاولنا تجميل هذه الكلمة
بل إن بعضهم يراه مريضا نفسيا و خصوصا أن كثيرا من الشعراء نتيجة احترافهم للكذب اﻷدبي انتقل الكذب إلى حياتهم اليومية و معاملاتهم وتضخيم الذات حتى قال المتنبي:
ليعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
وقال نزار قباني:
أنا قبيلة عشاق بكاملها
ومن دموعي سقيت البحرا والسحبا
قد لا يعجب كثيرا من الناس قولي هذا ، وقد يزعم معارض بأنني أنسف تسعة أعشار الشعر بهذا الرأي المتطرف ، لكنني لا أستطيع أن أفصل بين الزهرة وعبيرها ، ولا بين الشجرة و ثمرها ، أليس الحق أنه من ثمارهم نعرفهم؟
فكما أن الثمر دليل على نوع الشجر ، و كما أن العبير دليل على نوع الزهر ، يجب أن يكون الشعر دليل على نوعية شاعره ، أي شخصيته الحقيقية لا الافتراضية الاستعراضية المسرحية ، يجب أن أرى في الشعر حقيقة قلب الشاعر و منظومته الاخلاقية .
حين يكون الشاعر في واد و شعره في واد يكون من الغواة الذين يتبعهم الضلال ، ويكون وبالا على قيمة الشعر ، ووبالا على مكانة الشاعر الاجتماعية و دروه البنائي .